الجمعة، 3 أكتوبر 2014

الإسلام والعقلانية -12- .



لكن عموما و رغم الفشل من الجهمية في محاولة عقلنة الإسلام ، إلا أن مسعاهم هذا لم يذهب هباءا ، فتلك المحاولات منهم وتلك الأطروحات التي طرحوها كانت تقريبا كالحجر الذي ألقي في مياه راكدة فحركها ، فالثورة الفكرية التي قادوها قد أسست لاحقا لفرق عقلانية أخرى ستحاول شق الطريق ، وبالتحديد أكثر الفرق الإسلامية العقلانية شهرة وهي فرقة المعتزلة 1  فالمعتزلة تقريبا من حيث المنهج  والتفكير هم ورثة الأفكار الجهمية ، أو لنقل بمعنى أدق "التطور الفكري الطبيعي لفرقة الجهمية " لان الجهمية و المعتزلة كلاهما يشتركان في مسالة مركزية العقل ، لكن الفرق بينهما عموما أن المعتزلة قفزوا قفزة لم يقفزها الجهمية في قضية نظرتهم للقران "و تحديدا حين اخضعوا النص الديني  لمشرط العقل " ففي عهد الجهمية كان التصور أن القران هو الفيصل في أمور الدنيا و الدين ومنه واجهوا كثير من الإشكاليات حين سعوا للعقلنة المتكاملة للقرآن بموائمته مع العقل ، في المقابل فما ذهب إليه المعتزلة هو أن القرآن مجرد داعم للعقل لبلوغ الحقيقة ، وليس مؤسسا للحقيقة ، حيث كانوا يعتبرون أن الأصل في التحسين و التقبيح هو العقل وليس النص الديني ، و يقول القاضي عبد الجبار ابن أحمد في هذا الشأن وعلى سؤال : ما الأدلة عند المعتزلي ؟ (أي الأدلة التي يستند إليها في معرفة الله ) أنها " حجة العقل  و السنة و الكاتب و الإجماع " (  الأصول الخمسة ص 66) وهذا الرد هنا ورغم بساطته إلا أنه يعتبر نقلة جذرية عن ما قام به الجهمية ، فالمعنى هنا بأن الله يعرف بحجة العقل ، و أن القبيح ما قبحه العقل هو أن القران ليس هو المؤسس لمفهوم الحقيقة ، فالقران لو أسس للحقيقة لكان الله يعرف بالقران ، ولكان القبيح ما قبحه الشرع ،  و الحسن ما حسنه الشرع  كما يقول النقلية "إنّ الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها، ولا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع، و ما حسّنه فهو حسن وما قبّحه فهو قبيح" (نهج الحقّ وكشف الصدق: ص 83. ) ؛ لكن جعل العقل هو الحاكم سيضع القران تحت المجهر العقلي ، حيث أن القران لو خالف العقل فالله هو المحاكم وليس العقل ، وعليه كان المعتزلة وكلما واجهوا مشكلة مع النص القرآني فهم يسقطون النص ويعلون ما أملاه العقل ولهذا أنتقدهم الأصوليون .


لكن عموما يمكن القول أن المعتزلة ورغم هذه الثورة الكبيرة على التصور التقليدي الذي عاصرهم ، إلا أنهم لم يذهبوا بهذا المسعى لنقض مفهوم الله حال أن يتعارض العقل مع كلام الله  فهم تقبلوا مفهوم الله كقضية جوهرية ، وكانت وحدانية الله عندهم من أركان عقيدهم الخمسة (التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لكنهم بالأساس قلبوا طريقة الاستنتاج في مسألة النظر إلى الله ، فخلافا للنقلية الذي قالوا "أن كل ما نقل عن الله حق ولو خالف النقل العقل " ، فهم قالوا "أن الله حق ومادام حقا فهو لا يجب أن يخالف الحق الذي يقره العقل ، و عليه فكل ما اقره العقل كحق فهو من الله " ومن هذا المنظور كان المعتزلة و حال أن واجهوا في القران ما خالف الحق ، فهم لا يقولون أن الله قد خالف الحق ومنه فالله باطل على غرار الملاحدة ، بل يقولون أن القران هو من خالف الحق لضرورة من كونه مخلوقا ، فالقران خطأه نابع من كونه ليس كلام الله الأزلي الذي نطق به ، بل هو قول مخلوق قد يطرأ عليه النقص ككل المخلوقات الإلهية ، و المقصود من خلق القران هنا أي أنه "محدث" ( الأصول الخمسة ص 86 ) و "‏ الحادث كائن بعد أن لم يكن‏,‏ وبالتالي كان له مكان‏,‏ فإذا ذهب المكان والمكين وهما عرضان‏.. بقي القرآن تاريخا" (مصادر التشريع الإسلامي ‏(14) علي جمعة‏ الاهرام 22/01/2007) وكما نلاحظ هنا المعتزلة ذهبوا تقريبا إلى نفس المذهب "التاريخاني "الذي ذهب له مفكرون مسلمون معاصرون على غرار أركون ونصر حامد أبو زيد و غيرهم بعد اصطدام النص القراني لديهم مع العقلانية ، حيث و بدل أن يقولوا مثلا أخطا الله في كذا أو كذا حين يتعارض العقل والنقل ، يقولون أن الخطأ إنما هو نتاج لتاريخية النص ، فالله انزل النص يعاني العوار عمدا ليلاءم به حاجات المؤمنين في ذلك الزمان ، وطبعا و مادام ذلك الزمان قد فات ، فلسنا ملزمين بما اقر له لأنه مغلوط ، بل نحن ملزمون فقط بما عقلناه اليوم ، أما ما لم نعقله ، فالبديل له هو الشريعة العقلية ،  وهكذا حل المعتزلة (كما بعض المفكرين المسلمون المعاصرين ) إشكالية التعارض بين النقل والعقل بدون أن يذهبوا لنقض النص  .



_______________________________________________________________________________

1 المعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري(80 هـ- 131 ه) تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال، تميزت بتقديم العقل على النقل، وبالأصول الخمسة التي تعتبر قاسما مشتركا بين جميع فرقها،  و قد أختلف حول منشأ الاسم الذي أطلق عليها  فقد قيل أنه بسبب اعتزال مؤسسها مجلس الحسن البصري بعد خلافه معه حول حكم الفاسق ، وأيضا أن السبب ، وقيل أيضا انه بسبب اعتزالهم الحرب بين علي ومعاوية ، وانصرافهم لأمور الدين ، وقيل كذلك انه بسبب ميلهم للزهد والعبادة، وأنهم كانوا يعتزلون العالم، ويحيون حياة التقشف والزهد.


يتبع ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق