الأربعاء، 15 أكتوبر 2014

الإسلام والعقلانية -14- .



و يجدر الإشارة هنا أن الدولة الإسلامية (وتحديدا قادتها من الخلفاء العباسيين الذين تبنوا الفكر المعتزلي ) فهم لم يعتقدوا في أي مرحلة من المراحل أن هذه ستكون النهاية ، فهم عموما كانوا يعتقدون بكمال القران وبقدرته على منافحة العالم كما تم تلقينهم ، لهذا فقد انفتحوا على الفلسفات الأخرى وعلى الفكر بدون أي توجس كما نحن نجد في بيت الحكمة الذي أفتتحه الخليفة هارون الرشيد ، والذي تولى ترجمة الأعمال الفكرية و العلمية للأمم الأخرى ، لكن الذي حصل أن الدولة الإسلامية وبعد هذا الانفتاح قد فوجئت بحقيقة ضحالة المنتج الفكري المحلي مقارنة بما اطلعت عليه ، فبعد الانفتاح على الثقافات الأخرى وتحديدا اليونانية ، فقد وقعت الدولة الإسلامية في حرج مما لديها لأن الأفكار التي ترجمتها ( وتحديدا الفلسفة ) كانت متقدمة جدا على ما لدى المسلمين ،و هو ما أدى إلى زعزعة المعتقدات الإسلامية المبنية على المنطق السطحي ، لهذا فالدولة الإسلامية لاحقا و لتدارك هذا الأمر الخطير فقد ذهبت إلى فكرة أن المعرفة عموما والفلسفة خصوصا هي أمر خطير على الدولة الإسلامية ، وهو ما نراه جليا في المرسوم الذي أصدره الخليفة القادر ( 991 -1031 م) و المعروف بالوثيقة القادرية أو  (الإعتقاد القادري) 1 سنة 408هـ  ، فهذه الوثيقة تمثل إعلان رسمي للحرب العقلانية ، فهي قد حددت أطر مسطرة يعتبر كل من حاد عنها كافرا ، وقد كانت موجهة بالتحديد للجماعة العقلانية وعلى رأسهم المعتزلة القائلين بخلق القرآن عدى من قد يظهرون ويكونون امتدادا لهم ؛ و يمثل من ناحية أخرى سطوع نجم فقيه كأبو الحسن الأشعري وتبني الدولة في زمن الخليفة القادر لمذهبه ، الوجه الأخرى لهذه الحرب على العقلانية ، فالرجل ومن الناحية الفكرية لا يمكن القول أنه يحوز أي جسارة فكرية لينافح المعتزلة أو أن ينتصر عليهم ، لكنه دعم و إستمر لأنه بالأساس أستحضر ليؤدي دوره في ملئ الفراغ الذي نشاء بعد انقلاب الدولة على المعتزلة ، فسواء الأشعري أو الغزالي أو غيره من فقهاء الدولة من الأصوليين (أهل الحديث وفق التسمية القديمة ) ، فكلهم صنيعة الدولة الإسلامية للحرب على العقلانية ، وهم مثلهم مثل المعتزلة قد تم استحضارهم للقيام بدور معين وهو خدمة أيدلوجيا الدولة ، لكن الفارق أنه بينما كانت الدولة الإسلامية في البداية تحاول المنافحة على الأفكار الأخرى بالعقل والمنطق  زمن المعتزلة ،  فهي قد تحولت إلى دولة معادية للعقلانية زمن جماعة النقل 2.



_______________________________________


1 نص الوثيقة القادرية  .

.
أخبرنا محمد بن ناصر الحافظ ، حدثنا أبو الحسين محمد بن محمد الفراء قال : أخرج الإمام القائم بأمر الله ؛ أمير المؤمنين أبو جعفر أبن القادر بالله ـ في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة ـ الاعتقاد القادري ؛ الذي ذكره القادر ؛ فقرأ في الديوان ، وحضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطه تحته قبل أنْ يكتب الفقهاء ، وكتب الفقهاء خطوطهم . فيه إنَّ هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر وهو : يجب على الإنسان أنْ يعلم أنَّ الله جل جلاله وحده ، لا شريك له ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفوا أحد ، لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ، ولم يكن له شريك في الملك ، وهو أول لم يزل ، وآخر لا يزال ، قادر على كل شيء ، غير عاجز عن شيء ، إذا أراد شيئا قال له كن فيكون ، غنيٌ غير محتاج إلى شيء ، لا اله إلاَّ هو الحي القيوم ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، يُطْعِمُ ولا يُطْعَمُ ، لا يستوحش من وُحْدَةٍ ، ولا يأنس بشيء ، وهو الغني عن كل شيء ، لا تخلفه الدهور والأزمان ، وهو خالق الدهور والأزمان ، والليل والنهار ، والضوء والظلمة ، والسماوات والأرض وما فيها من أنوع الخلق ، والبر والبحر وما فيهما ، وكل شيء حيٍ أو موات أو جماد ، كان ربنا وحده ، لا شيء معه ، ولا مكان يحويه ، فخلق كل شيء بقدرته ، وخلق العرش لا لحاجته إليه ، فاستوى عليه كيف شاء وأراد ، لا استقرار راحة ؛ كما يستريح الخلق ، وهو مدبر السماوات والأرضين ، ومدبر ما فيهما ، ومن في البر والبحر ، ولا مدبر غيره ، ولا حافظ سواه ، يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم ويحييهم ، والخلق كلهم عاجزون والملائكة والنبيون والمرسلون والخلق كلهم أجمعون ، وهو القادر بقدرة ، والعالم بعلم أزلي غير مستفاد ، وهو السميع بسمع ، والمبصر ببصر ، يعرف صفتهما من نفسه ، لا يبلغ كنههما أحد من خلقه ، متكلم بكلام لا بآلة مخلوقة كآلة المخلوقين ، لا يوصف إلاَّ بما وصف به نفسه ، أو وصفه به نبيه صلوات الله عليه وكل صفة وصف بـها نفسه ؛ أو وصفه بـها رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فهي صفة حقيقية لا مجازية ، ويُعلم أنَّ كلام الله تعالى غير مخلوق ؛ تكلم به تكليما ؛ وأنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل ؛ بعد ما سمعه جبريل منه ؛ فتلاه جبريل على محمد ؛ وتلاه محمد على أصحابه ؛ وتلاه أصحابه على الأمة ، ولم يصر بتلاوة المخلوقين مخلوقا ؛ لأنه ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله به ؛ فهو غير مخلوق [فبكل] حال [ الكلمة مطبوعة في المنتظم كما هي بين القوسين  (فبكل ) والأمر غالبا خطأ مطبعي أو خطأ في اللغة فلا بد أنْ تكون الكلمة هي "في كل حال " ليصح الكلام ] متلوا ومحفوظا ومكتوبا ومسموعا ، ومن قال : إنَّه مخلوق على حال من الأحوال ؛ فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه ، ويعلم أنَّ الإيمان قول وعمل ونية ؛ وقول باللسان وعمل بالأركان والجوارح ؛ وتصديق به يزيد وينقص : يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، وهو ذو أجزاء وشعب ، فأرفع أجزائه لا اله إلاَّ الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والحياء شعبة من الأيمان ، والصبر من الإيمان بمنـزلة الرأس من الجسد ، والإنسان لا يدري كيف هو مكتوب عند الله ، ولا بماذا يختم له ، فلذلك يقول : مؤمن إن شاء الله ، وأرجو أنْ أكون مؤمنا ، ولا يضره الاستثناء والرجاء ، ولا يكون بـهما شاكا ؛ ولا مرتابا ، لأنه يريد بذلك ما هو مغيب عنه ، من أمر آخرته وخاتمته ، وكل سيء يتقرب به إلى الله تعالى ؛ ويعمل لخالص وجهه من الطاعات : فرائضه ، وسننه ، وفضائله ، فهو كله من الإيمان منسوب إليه ، ولا يكون للإيمان نـهاية أبدا ؛ لأنه لا نـهاية للفضائل ؛ ولا للمتبوع في الفرائض أبداً ، ويجب أنْ يحب الصحابة من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلهم ، ونعلم أنـهم خير الخلق بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأنَّ خيرهم كلهم وأفضلهم بعد رسول الله ـ صلى الله علية وسلم ـ أبو بكر الصدِّيق ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفان ، ثم علي بن أبي طالب ، رضي الله عنهم ، ويشهد للعشرة بالجنة ، ويترحم على أزواج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن سب سيدتنا عائشة ـ رضي الله عنها ـ فلا حظ له بالإسلام ، ولا يقول في معاوية ـ رضي الله عنه ـ إلاَّ خيرا ، ولا يدخل في شيء شجر بينهم ، ويترحم على جماعتهم ، قال الله تعالى :] وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [ (الحشر:10) وقال فيهم : ] وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [ (الحجر:47) ولا يكفر بترك شيء من الفرائض غير الصلاة المكتوبة وحدها ، فإنه من تركها من غير عذر وهو صحيح فارغ حتى يخرج وقت الأخرى فهو كافر ؛ وإنْ لم يجحدها ، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( بين العبد والكفر ترك الصلاة ) . فمن تركها فقد كفر ، ولا يزال كافرا حتى يندم ويعيدها ، فأنْ مات قبل أنْ يندم ويعيد أو يضمر أنْ يعيد ، لم يصلَّ عليه وحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن أبي خلف ، وسائر الأعمال لا يكفر بتركها ، وإنْ كان يفسق حتى يجحدها ، ثم قال : هذا قول أهل السنة والجماعة ؛ الذي من تمسك به كان على الحق المبين ؛ وعلى منهاج الدين والطريق المستقيم ، ورجا به النجاة من النار ؛ ودخول الجنة إنْ شاء الله تعالى ، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وعلم الدين النصيحة ، قيل : لمن يا رسول الله ؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين ولعامتهم . وقال عليه السلام : أيما عبد جاءته موعظة من الله تعالى في دينه ، فإنـها نعمة من الله سيقت إليه ، فإن قبلها يشكر ، وإلاَّ كانت حجة عليه من الله ؛ ليزداد بـها إثماً ويزاد بـها من الله سخطا ) جعلنا الله لآلائه من الشاكرين ؛ ولنعمائه ذاكرين ، وبالسنة معتصمين ، وغفر لنا ولجميع المسلمين .


2  غالبا هذا ما يشرح لنا حقيقة موت العقلانية في بلاد الإسلام ، و كيف أن الحضارة الإسلامية قد انحدرت فكريا بعد أوجها سابقا ، فالحقيقة أن حالة الانحطاط في الحضارة الإسلامية لم تكن حالة انحطاط سببها الخلفاء المسلمين بسوء التسيير ، بل الأصل هو أن الدولة الإسلامية هي ذاتها ومن إرادة واعية قد دعمت ذلك المنهج عمدا  ، فالدولة الإسلامية ببساطة وجدت أن الفكر مهدد للايدولوجيا الرسمية و منه فقد حاربته ، لكنها طبعا لم تنتبه أن حربها تلك سوف أول ما تدمر  سوف تدمرها هي ، فحين أطلقت أيدي رجال الدين لتكفير العلوم و الفكر على غرار الغزالي مثلا بكتابه إحياء علوم الدين ، فهي لم تدري أنه سوف يضرب أساسات نهضة الدولة الإسلامية من مفكرين على ابن سينا و الفارابي وغيره ، فنحن نعلم اليوم أن هؤلاء قد كفروا و هوجموا من الجماعة الأصولية ، وكيف أن هذا الأمر هو بالذات ما أدى إلى تدهور حال الخلافة الإسلامية .



يتبع ..



السبت، 11 أكتوبر 2014

الإسلام و العقلانية -13- .





ومن هنا نلاحظ أن المعتزلة كانوا الأقرب لفهم حقيقة القرآن ، فهُم وبالقول "بخلق القرآن" و بــ "تقديم العقل على النقل" قد ردوا إلى حد كبير القرآن إلى ذاتيته ، وهو ما حرر القرآن من الكثير من الإشكاليات التي كانت تواجهه بسبب الزعم الذي ألحق به سابقا  ؛ لكن الحقيقة أنه ورغم هذا الإنجاز من المعتزلة في حل إشكالية صراع الإسلام و الواقع ، إلا أنهم عادوا لخلق مشكلتين أكبر من  التي حلوها  فأولا : القول بذاتية القران خلق مشكلة بروز الإلحاد ، لأن القول أن القرآن ذاتي يعني أنه غير مثبت ، و طبعا وما دام القرآن غير مثبت فلا حاجة إذن للإيمان به  ، وهكذا فالمعتزلة جعلوا و بهذا الحل الذي قدموه أنفسهم في قفص الاتهام حول مصداقية إيمانهم ، فعلى أي أساس يؤمن المعتزلة ويبشرون بدينهم عقلانيا وهم بالأصل لا يملكون دليلا عقليا على صدقه ؟.


الثاني : أن المعتزلة و بهذا القول قد أعادوا إحياء القضية التي كانت الدولة الإسلامية قد جاهدت لطمرها (و نقصد هنا تحديدا إشكالية ذاتيه القرآن ) فالدولة الإسلامية وكما سبق لنا الشرح  قد روجت لفكرة كمال القرآن لجعل الإسلام أيدلوجيا صالحة للحكم ، فلكي تستطيع الدولة الإسلامية الفتح وأخذ الجزية بإسم الإسلام فقد زعمت أن القرآن كامل و أن على الجميع الخضوع له ، لهذا فلما يعود المعتزلة ويقولوا أن القرآن ذاتي ، و أن العقل مقدم عليه ، فهنا فالمعتزلة قد جعلوا أنفسهم في صدام مع رواية الدولة الإسلامية ، فالمفروض أن القرآن هو كتاب الله ورسالته للبشر الذي بإسمها تحكم وتفتح الدولة الإسلامية الدول الأخرى ، لكن بعد هذا الكلام من المعتزلة ، فهنا قد صار القرآن غير صالح ليبرر هذا ، وليس للدولة الإسلامية أن تفرض أي شيء باسمه .. و طبعا كلام كهذا كلام خطير أن يقال خاصة في ذلك الوقت ، فالمعتزلة المفروض كان أن يدعموا دولتهم التي ترعاهم وليس أن يناقضوها فلا يصح لمفكر أو رجل دين في الزمن القديم أن يقف ضد دولته .


 ومن هنا طبعا نفهم لماذا الدولة الإسلامية انقلبت على الفكر المعتزلي  وحاربته رغم أنها هي من روجت له في البداية 1 ، فالحقيقة أن الدولة الإسلامية قد وجدت في الإعتزال خطرا على مصالحها في نهاية المطاف ، ففي البداية كان التصور لدى الدولة  ( ونقصد هنا الفترة التي حكم فيها الخلفاء الذين دعوا الفكر المعتزلي كالمأمون وغيره ) أن الاعتزال هو غالبا الفكر الأصلح لتغطيت الأيدلوجيا الرسمية ، فبعد الانفتاح على الثقافات الأخرى (كثقافة اليونانية و الفارسية و المصرية  إلخ ) وما ظهر من تحديات واجهتها ،  فقد بدى أن الاعتزال غالبا هو الفكر المنشود ليرد على تلك التحديات ؛ خاصة و قد أتبت نجاحه إلى حد كبير في الرد على الخصوم الفكريين و الدينيين ، لكن طبعا الأمر الذي لم يكن متوقع من الاعتزال هو أن ينتهي هو نفسه لان يكون عدوا للدولة و مهددا لها ، لهذا فالدولة الإسلامية وبعد وصول الطريق الاعتزالي إلى تلك النتيجة فهي قد انقلبت عليه ، وضحت بالمعتزلة على حساب محاولة عقلنة الخطاب الرسمي ،  فالدولة بالبداهة تبحث عن ديمومتها ، وهو  الأمر المتوقع عموما فلا يتخيل لا اليوم ولا غدا أن تنحاز الدولة لغير مصالحها . 



 ________________________________________

    
1 ) إنّ الخلفاء العباسيين ـ من عصر المأمون إلى المعتصم، إلى الواثق بالله ـ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر، فكان للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام 232هـ وأخذ المتوكل بزمام السلطة بيده، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب الحديث، ولم تزل السيرة على ذلك حتى هلك المتوكل وقام المنتصر بالله مقامه، فالمستعين بالله، فالمعتز بالله، فالمهتدي، فالمعتمد، فالمعتضد، فالمكتفي، فالمقتدر، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام 295هـ إلى 320هـ  .. وقد ضيق أصحاب السلطة ـ في عصر المتوكل إلى عهد المقتدر ـ الأمر على منهج التعقّل، فالضغط والضيق كانا يتزايدان ولا يتناقصان أبدا. ( الملل و النحل، ج 2 ص 25 – 26  ) 

يتبع ..
 

الثلاثاء، 7 أكتوبر 2014

من إلهة إلى ماكينة للجنس و الإنجاب .



مع بدء الوعي البشري بالتشكل و بدء إدراك الإنسان لنفسه و وجوده ، كان من بين أكثر الأسئلة التي شغلت البشرية حينها هي  (فكرة النشأة) و نقصد بها أسئلة الإنسان حول كيف وجد ؟ و من أين أتى ؟ وإلى أين يذهب ؟ فقد لاحظ الإنسان أنه في الأصل كان عدما لكنه لاحقا وُجد ، لهذا فقد تساءل عن المكان الذي وجد منه و من أوجده ؟ ومن الملاحظات التي جمعها بعد النظر للطبيعة حوله وللكائنات فقد كانت الفرضية التي وصل إليها هي أنه "الرحم" ، فالرحم وكما لاحظ الإنسان فهو الشيء الوحيد الذي له القدرة على منح الحياة ، فمنه يولد الإنسان و منه يتغذى ، وفي الحياة الطبيعية فهو المانح للذة و الموفر للأمن والأمان و الحنان ، و على هذا فقد تصور البشر الأوائل أن أصل الحياة ( الموجد ) هو الرحم  بلا شك ، و أن الأنثى بالبديهة هي الآلهة ، وعليه فقد عبدت جل الشعوب القديمة انطلاقا  من هذه التصورات "الرحم" على أنه الموجد (أي الخالق) ، و قدست الأنثى على أنها الآلهة الحافظة للحياة ، وقد صارت انطلاقا من هذه التصورات كل المجتمعات القديمة مجتمعات أمومية تقوم على محورية الأنثى وتقديسها ، لكن الذي حصل فجأة مغيرا هذا الوضع ، هو انه و مع تطور الوعي البشري وبدا تجمع المعارف لدى الإنسان ، فقد لاحظ الرجل أن هذا الرحم المقدس ليس هو بالضرورة الموجد ، فالرحم في حاجة ماسة للتخصيب لتدب فيه الحياة ، و عليه فقد ذهب إلى أنه ليس مضطرا لعبادته بالضرورة ، فمادام هو الواهب للخصب وليس الرحم ، فهو من يستحق العبادة لا الأنثى ؛ وهكذا ومن هذا التصور المستجد فقد تحول الرجل و من التقديس للأنثى كما كانت الأعراف ، إلى تبخيسها و أهانتها ، أما هو فقد تحول ومن حالة الدونية التي كان فيها إلى إعلان نفسه الإله الجديد للعالم  ، وهو الأمر الذي نجد صداه بارزا في الأديان التي ظهرت بعد هذه الحادثة ، ففيما اتسمت الأديان القديمة (التعددية ) بطغيان الآلهة المؤنثة على غرار تعامه و عشتار و ايزيس الخ ، فنحن نجد أن الأديان الحديثة (التوحيدية ) قد حملت كلها نزعة ذكورية الطابع ، ففي اليهودية مثلا نجد أن الله هو رب الجنود "يهوه" ، أما في المسيحية فنحن نجد أنه الأب و الابن "جيسوس" ، وحتى في الإسلام الذي سعى دائما  لنفي فكرة جنوسة الإله عنه فالله ظل في الحقيقة معبر عن كل ما هو ذكوري في النهاية كما نلمس في سورة الأنعام قوله  (بديع السماوات والأرض أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ  )  فالله في الإسلام ليس له أولاد ليس لأنه ليس ذكر ، بل لأنه غير متزوج .

 ومن هنا طبعا نكتشفحقيقة التبخيس الذي يطال المرأة في العالم اليوم ، فالمرأة هي ضحية تتصورات دينية مغلوطة قدستها بدءا و احتقرتها ختاما ، ما يعني أن إشكالية المرأة الوعاء و المرأة الأداة هي بالأساس إشكالية دينية ، فالدين هو سبب امتهان المرأة وعليه فلا إنصاف لها إلا برفع يده عنه ، و اليوم لا يمكن عدم ملاحظة أن مشاكل الأنثى كلها تنبع من التصورات الدينية المبخسة لها ، فكلما يشتد عود الدين في مجتمع كلما يضيق الأمر على المرأة ، في المقابل كلما كان المجتمع أكثر حرية وعلمانية فكلما كانت أحوال المرأة  فيه أفضل ، لهذا فصراع المرأة من أجل الحرية و الكرامة اليوم هو صراعها و الأديان الذكورية ، فإما تنتصر المرأة  وتنقض الخطاب الذكوري في تلك الأديان وتقلم أظافرها ، و إما هي ستظل في حالها البائس .



شكرا .
 

الجمعة، 3 أكتوبر 2014

الإسلام والعقلانية -12- .



لكن عموما و رغم الفشل من الجهمية في محاولة عقلنة الإسلام ، إلا أن مسعاهم هذا لم يذهب هباءا ، فتلك المحاولات منهم وتلك الأطروحات التي طرحوها كانت تقريبا كالحجر الذي ألقي في مياه راكدة فحركها ، فالثورة الفكرية التي قادوها قد أسست لاحقا لفرق عقلانية أخرى ستحاول شق الطريق ، وبالتحديد أكثر الفرق الإسلامية العقلانية شهرة وهي فرقة المعتزلة 1  فالمعتزلة تقريبا من حيث المنهج  والتفكير هم ورثة الأفكار الجهمية ، أو لنقل بمعنى أدق "التطور الفكري الطبيعي لفرقة الجهمية " لان الجهمية و المعتزلة كلاهما يشتركان في مسالة مركزية العقل ، لكن الفرق بينهما عموما أن المعتزلة قفزوا قفزة لم يقفزها الجهمية في قضية نظرتهم للقران "و تحديدا حين اخضعوا النص الديني  لمشرط العقل " ففي عهد الجهمية كان التصور أن القران هو الفيصل في أمور الدنيا و الدين ومنه واجهوا كثير من الإشكاليات حين سعوا للعقلنة المتكاملة للقرآن بموائمته مع العقل ، في المقابل فما ذهب إليه المعتزلة هو أن القرآن مجرد داعم للعقل لبلوغ الحقيقة ، وليس مؤسسا للحقيقة ، حيث كانوا يعتبرون أن الأصل في التحسين و التقبيح هو العقل وليس النص الديني ، و يقول القاضي عبد الجبار ابن أحمد في هذا الشأن وعلى سؤال : ما الأدلة عند المعتزلي ؟ (أي الأدلة التي يستند إليها في معرفة الله ) أنها " حجة العقل  و السنة و الكاتب و الإجماع " (  الأصول الخمسة ص 66) وهذا الرد هنا ورغم بساطته إلا أنه يعتبر نقلة جذرية عن ما قام به الجهمية ، فالمعنى هنا بأن الله يعرف بحجة العقل ، و أن القبيح ما قبحه العقل هو أن القران ليس هو المؤسس لمفهوم الحقيقة ، فالقران لو أسس للحقيقة لكان الله يعرف بالقران ، ولكان القبيح ما قبحه الشرع ،  و الحسن ما حسنه الشرع  كما يقول النقلية "إنّ الحسن والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها، ولا بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع، و ما حسّنه فهو حسن وما قبّحه فهو قبيح" (نهج الحقّ وكشف الصدق: ص 83. ) ؛ لكن جعل العقل هو الحاكم سيضع القران تحت المجهر العقلي ، حيث أن القران لو خالف العقل فالله هو المحاكم وليس العقل ، وعليه كان المعتزلة وكلما واجهوا مشكلة مع النص القرآني فهم يسقطون النص ويعلون ما أملاه العقل ولهذا أنتقدهم الأصوليون .


لكن عموما يمكن القول أن المعتزلة ورغم هذه الثورة الكبيرة على التصور التقليدي الذي عاصرهم ، إلا أنهم لم يذهبوا بهذا المسعى لنقض مفهوم الله حال أن يتعارض العقل مع كلام الله  فهم تقبلوا مفهوم الله كقضية جوهرية ، وكانت وحدانية الله عندهم من أركان عقيدهم الخمسة (التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) لكنهم بالأساس قلبوا طريقة الاستنتاج في مسألة النظر إلى الله ، فخلافا للنقلية الذي قالوا "أن كل ما نقل عن الله حق ولو خالف النقل العقل " ، فهم قالوا "أن الله حق ومادام حقا فهو لا يجب أن يخالف الحق الذي يقره العقل ، و عليه فكل ما اقره العقل كحق فهو من الله " ومن هذا المنظور كان المعتزلة و حال أن واجهوا في القران ما خالف الحق ، فهم لا يقولون أن الله قد خالف الحق ومنه فالله باطل على غرار الملاحدة ، بل يقولون أن القران هو من خالف الحق لضرورة من كونه مخلوقا ، فالقران خطأه نابع من كونه ليس كلام الله الأزلي الذي نطق به ، بل هو قول مخلوق قد يطرأ عليه النقص ككل المخلوقات الإلهية ، و المقصود من خلق القران هنا أي أنه "محدث" ( الأصول الخمسة ص 86 ) و "‏ الحادث كائن بعد أن لم يكن‏,‏ وبالتالي كان له مكان‏,‏ فإذا ذهب المكان والمكين وهما عرضان‏.. بقي القرآن تاريخا" (مصادر التشريع الإسلامي ‏(14) علي جمعة‏ الاهرام 22/01/2007) وكما نلاحظ هنا المعتزلة ذهبوا تقريبا إلى نفس المذهب "التاريخاني "الذي ذهب له مفكرون مسلمون معاصرون على غرار أركون ونصر حامد أبو زيد و غيرهم بعد اصطدام النص القراني لديهم مع العقلانية ، حيث و بدل أن يقولوا مثلا أخطا الله في كذا أو كذا حين يتعارض العقل والنقل ، يقولون أن الخطأ إنما هو نتاج لتاريخية النص ، فالله انزل النص يعاني العوار عمدا ليلاءم به حاجات المؤمنين في ذلك الزمان ، وطبعا و مادام ذلك الزمان قد فات ، فلسنا ملزمين بما اقر له لأنه مغلوط ، بل نحن ملزمون فقط بما عقلناه اليوم ، أما ما لم نعقله ، فالبديل له هو الشريعة العقلية ،  وهكذا حل المعتزلة (كما بعض المفكرين المسلمون المعاصرين ) إشكالية التعارض بين النقل والعقل بدون أن يذهبوا لنقض النص  .



_______________________________________________________________________________

1 المعتزلة فرقة إسلامية ظهرت في بداية القرن الثاني الهجري(80 هـ- 131 ه) تنتسب إلى واصل بن عطاء الغزال، تميزت بتقديم العقل على النقل، وبالأصول الخمسة التي تعتبر قاسما مشتركا بين جميع فرقها،  و قد أختلف حول منشأ الاسم الذي أطلق عليها  فقد قيل أنه بسبب اعتزال مؤسسها مجلس الحسن البصري بعد خلافه معه حول حكم الفاسق ، وأيضا أن السبب ، وقيل أيضا انه بسبب اعتزالهم الحرب بين علي ومعاوية ، وانصرافهم لأمور الدين ، وقيل كذلك انه بسبب ميلهم للزهد والعبادة، وأنهم كانوا يعتزلون العالم، ويحيون حياة التقشف والزهد.


يتبع ..