لكن عموما ورغم هذا المجهود المتميز في محاولة عقلنه الخطاب
الديني عن طريق التأويل ، إلا أن الجمهية لم ينهوا حقيقة سلسلة التأويلات بالطريقة التي تجعل رؤيتهم
رؤية متماسكة ورصينة ، فعلى سبيل المثال كان من بين ما ينقض رؤيتهم في كثير من
الأحيان هو أن النص القرأني كان دائما مخالفا لهم على غرار قضية العرش مثلا ، ففي قضية أن العرش يمثل سلطة الله كما قالوا ، كانت المشكلة التي خلقها القرآن لهم هي الآية التي
تقول أن عرش الله كان على ماء ( وكان عرشه على ماء )سورة هود الآية 7 وكما نلاحظ هنا فهذه الآية
تضرب الأطروحة الجهمية في مقتل ، لأنه وإذا كان المقصود بالعرش هو سلطة الله ،
فكيف لهذه السلطة أن تتموقع على سطح مائي ؟ ( وهنا فالآية صريحة في الدلالة على
هذا الأمر ، فالماء شيء مادي ، وبلا شك أي شيء سيتموضع على هذا الماء فهو شيء مادي مثله بالضرورة ) ومنه فالقول
الجهمي منتفي بداهة ؛ الأمر الأخر أنه وعلى فرض أن الجهمية قالوا أن
الماء هنا نوع من المجاز ، وأن المقصود به ليس الماء بمعناه الحرفي ، فالسؤال
الباقي هو : و ما الدلالة المقصودة بالماء
، وما الذي يلزم بقول خلاف القول الظاهري الواضح ؟ و الجهمية للأسف لم يقدموا شرحا مقنعا لهذا السؤال ، ومنه كان من البساطة بمكان
أن نقض خصومهم تصوراتهم التأويلية (ابن
تيمية مثلا) ، هذا مع أن أراء مخالفيهم ليست أقل بطلانا فالقول بالتجسيم ليس أقل
كارثية من محاولة التأويل 1، لكن عموما هذا ما جرى و السبب ببساطة هو الخطأ
الجهمي في الإنطلاق من فرضية كون النص الديني عقلاني و أنه مؤسس للحقيقة ، فالجهمية وحال أن أقرت بصدقية النص القرآني فهي
قد ألزمت نفسها بكل حرف فيه ، ومنه كان من السهل للجماعة المخالفة لهم أن يردوا عليهم بإلزامهم بالنص ، وطبعا وبما أن النص من البداية نص لاعقلاني ، فقد انتهى الأمر بالجهمية إلى الفشل ؛ وهو عموما الأمر البديهي لأن الجهمية فكروا كفقهاء لا كفلاسفة ، والفرق هنا بين
الفيلسوف والفقيه أن الفيلسوف يبحث عن الحقيقة بغض النظر على ما سيتطلبه ذلك ، في
المقابل فالفقيه يبحث عن تثبيت دعائم الدين حتى لو خالف من أجل ذلك الحقيقة ، وعليه كان أن رأينا أنه وبعد فشل الجهمية في وضع
رؤية متكاملة لحل إشكاليات العقل و النقل ، أن الفقهاء المعلين لقدسية النص لاحقا
قد نبذو جميعهم العقل ، لأنه وكما تبت من التجربة الجهمية فمحاولة عقلنة النص هي
محاولة فاشلة ، ومنه ومن اجل الحفاظ على الدين فقد وجب نبذ العقل كما
يقول ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل، ص 138. )" فإذا تعارضَ الشرع والعقل وجبَ تقديم الشرع ؛ لأنَّ العقل
مصدِّق للشرع في كُلِّ ما أخبر به ، والشرع لَم يصدق
العقل في كُلِّ ما أخبره به " ، و هنا إبن تيمية يعلن القطيعة بين العقل والنص ، لأنها ببساطة غير موجودة .
_________________________________________
1 تتمثل الإشكالية في مسالة التجسيم
أن القول بها يفرض بالضرورة القول أن الله خاضع للزمان و المكان ، وهذا أمر مناقض للمسلمات الإسلامية ،
فالمشكلة التي تنتج عن التجسيم في قضية كقضية واستوى على العرش مثلا، أن القول بهذا يفترض ان الله خاضع
للجاذبية ، فلماذا يجلس الله على عرش ؟ أو لماذا يكون
العرش على الماء ؟ و لماذا يحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ؟ إلا أن هذا يعني كونه خاضعا
لأمر خارج عنه وهو الجاذبية ، وطبعا هنا واضح القصور الذي يتبدى من هذا القول ، فالله المفروض لا يخضع لأي شيء ، ومنه كان الجهمية بأطروحاتهم يحاولون
ايجاد حل لهذا الإشكال بالقول أن معنى الاستواء مجازي فهم يعلمون
أنهم لو قالوا أن الله استوي على العرش ، بأنهم سيتبثون
عليه بهذا الكلام أنه محدود بالمكان و الزمان ، وهذا الأمر
لا يصلح أن ينسب لله ، الشيء الأخر أن فكرة
العرش و الاستواء توحي بأن الله لا يختلف عن واقع الملوك من البشر حيث له عرش يستوي عليه ، و جند و حاشية إلخ ، وهذه أمور تتنافى و التفرد
الإلهي لقوله (ليس كمثله شيء)
يتبع .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق