والمعنى
من هذا الكلام هو ( كيف لله أن يعلم بالشيء قبل حدوثه وفي الوقت نفسه أن ينفي عن
نفسه صفة الجهل أو الحدوث بعد حدوث الشيء ، فالله لو علم بشيء سيحدث مثلا (سقوط
طائرة ) ثم حدث هذا السقوط ، فالله هنا سيكون يعلم بشيء حدث وليس سيحدث وهذا يعتبر
جهلا بالنسبة لما كان عليه ، فسابقا كان الله عالما بشيء سيحدث ، ثم بعد الحدوث
صار عالما بشيء حدث ، أما إذا قلنا أن المعرفة تغيرت حيث كان الله يعلم ثم تغير
علمه ، فهذا يعني بداهة أن الله صار حادثا ، فالله كان في حالة هو بها عالم بما
سيحدث ، ثم حدث له أن تغير إلى أن صار عالما بما حدث ، وهو ما يعني أن الله خاضعا
للحوادث ، خلافا لما هو في الاعتقاد الإسلامي التقليدي أن الله مخالف للحوادث ) وقد حاول الجهمية انطلاقا من هذه التصورات إصلاح
هذه الأنماط من الإشكالية العقلية التي تواجه الزعم الإسلامي ، حيث ذهبوا إلى نفي فكرة
موضوعية صفات الله لإزالة التناقضات ، واعتبروا بالمقابل أن صفات الله ما هي سوى
صفات مجازية من الله لتقريب مفهوم الله للبشر ، و قد كان من بين أشهر الأمور التي
تعرضوا لها بهذا الخصوص هي فكرة الاستواء على العرش (وهي قضية إلى وقتنا الراهن تمثل مشكلة في طريقة
فهمها بالنسبة للمسلم ) حيث انه ونسبة للزعم القرآني فالله أستوى على عرش وهو ما
يوحي بأن الله مجسّم ، لكن من ناحية أخرى فالزعم الإسلامي يذهب إلى أن الله ليس
كمثله شيء ، وانه هو كل شيء ، وهو ما يخلق تناقضا لا يمكن تقبله فهل الله مجسم أم
ليس مجسم ؟ وكيف يمكن حل إشكالية كل زعم حال القول به ؟ وبالنسبة لهذا الأمر فقد
كان الرأي التقليدي حينها أن الأصل هو بنفي السؤال والعقل السائل له لدرء التعارض
، حيث كان قول التيار النقلي هو ( أن الاستواء معلوم والكيف مجهول و السؤال عنه
بدعه ، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ) وهي حالة إقالة للعقل لتجنب أن يؤدي
العقل لطرح إشكالية تلزم تغييرا في الاعتقاد ( بمعنى انه وبدل أن تحاول أن تفهم فعليك بكل
بساطة أن تلغي عقلك ) لكن الجهمية كفرقة عقلانية فهي لم تتقبل هذا الجواب الهش ، وحالت الجهمية
الذهاب نحو جواب يكون أكثر منطقية (بحيث لا يكون مخالفا للعقل) ، وفي الوقت نفسه أن
يكون محافظا على النص (خاصة وأنهم من البداية ينطلقون من أصالة النص ودقته ) وهنا
فقد كان رأي الجهمية ولحل هذا الإشكال أن
مفهوم الاستواء الذي المذكور انه ليس استواء بالمعنى الظاهري (أي التجسيم لأن
القول بالتجسيم يجر معه مشاكل لا حصر له مع الإدعاءات الإسلامية الأخرى ) بل هو
مفهوم مجازي ( أي مجرد صورة تقريبه يشرح بها الله الفكرة التي يريد إيصالها ) وقد اعتبروا أن المعنى الأدق لمعنى (أن الله
على العرش استوى ) هي انه "استولى بمعنى ملك وقهر " (الصواعق المرسلة ص 888 ) ومعنى استولى هنا أي أنه بسط نفوذه على جميع الموجودات
بعد خلقها ، بما يعني أن استواء الله على
العرش بنظرهم لا يعني جلوسه حرفيا عليه
بما يؤدي إلى التجسيم ، بل القصد منه انه نفوذ و سطوة الله التي استولت على مقاليد
السلطة في الوجود (وهو ذات التعبير الذي نستخدمه
اليوم تقريبا للتعبير على فكرة فوز الحزب الفلاني
أو العلاني بالأغلبية البرلمانية في بلد ما حيث نقول أنه جلس على عرش تلك الدولة ،
رغم أن الحقيقة أن هذا لا يمكن تصوره بالمعنى الحرفي ) ومنه وبهذا المنظور فقد خرجوا من الإشكاليات
التي كانت تواجههم لعقلنة الأطروحات الإسلامية ، والتي ذهبوا بهذا لشرح الكثير من الآيات القرآنية
الشبيهة مثل تفسير أية ( يد الله فوق أيديهم ) أو أية (
يوم يكشف عن ساق ) حيث قالوا أن معنى اليد المقصود هو قدرة الله على الفعل وليس
اليد كما نعرفها ، أما المقصود بكشف الساق فهو حالة الكرب والشدة ، كقولنا مثلا" إنه وقت التشمير على السواعد" والتي تعني عموما وقت العمل
الاجتهاد ، وليس بالضرورة الكشف عن ساق مادية .
يتبع ..
في المتابعة
ردحذفأنتظر بشغف بقية السلسلة من المقالات الشيقة
تشكر اخي او اختي على هذه المتابعة الكريمة ، و اتمنى تنال بقية المقالات اعجابك
حذف