ومن هنا نلاحظ أن المعتزلة كانوا الأقرب لفهم حقيقة القرآن ، فهُم وبالقول
"بخلق القرآن" و بــ "تقديم العقل على النقل" قد ردوا إلى حد
كبير القرآن إلى ذاتيته ، وهو ما حرر القرآن من الكثير من الإشكاليات التي كانت
تواجهه بسبب الزعم الذي ألحق به سابقا ؛
لكن الحقيقة أنه ورغم هذا الإنجاز من المعتزلة في حل إشكالية صراع الإسلام و
الواقع ، إلا أنهم عادوا لخلق مشكلتين أكبر من
التي حلوها فأولا : القول بذاتية
القران خلق مشكلة بروز الإلحاد ، لأن القول أن القرآن ذاتي يعني أنه غير مثبت ، و
طبعا وما دام القرآن غير مثبت فلا حاجة إذن للإيمان به ، وهكذا فالمعتزلة جعلوا و بهذا الحل الذي
قدموه أنفسهم في قفص الاتهام حول مصداقية إيمانهم ، فعلى أي أساس يؤمن المعتزلة
ويبشرون بدينهم عقلانيا وهم بالأصل لا يملكون دليلا عقليا على صدقه ؟.
الثاني : أن المعتزلة و بهذا القول
قد أعادوا إحياء القضية التي كانت الدولة الإسلامية قد جاهدت لطمرها (و نقصد هنا
تحديدا إشكالية ذاتيه القرآن ) فالدولة الإسلامية وكما سبق لنا الشرح قد روجت لفكرة كمال القرآن لجعل الإسلام
أيدلوجيا صالحة للحكم ، فلكي تستطيع الدولة الإسلامية الفتح وأخذ الجزية بإسم
الإسلام فقد زعمت أن القرآن كامل و أن على الجميع الخضوع له ، لهذا فلما يعود
المعتزلة ويقولوا أن القرآن ذاتي ، و أن العقل مقدم عليه ، فهنا فالمعتزلة قد
جعلوا أنفسهم في صدام مع رواية الدولة الإسلامية ، فالمفروض أن القرآن هو كتاب الله
ورسالته للبشر الذي بإسمها تحكم وتفتح الدولة الإسلامية الدول الأخرى ، لكن بعد
هذا الكلام من المعتزلة ، فهنا قد صار القرآن غير صالح ليبرر هذا ، وليس للدولة
الإسلامية أن تفرض أي شيء باسمه .. و طبعا كلام كهذا كلام خطير أن يقال خاصة في
ذلك الوقت ، فالمعتزلة المفروض كان أن يدعموا دولتهم التي ترعاهم وليس أن يناقضوها
فلا يصح لمفكر أو رجل دين في الزمن القديم أن يقف ضد دولته .
ومن هنا طبعا نفهم لماذا الدولة الإسلامية
انقلبت على الفكر المعتزلي وحاربته رغم
أنها هي من روجت له في البداية 1 ، فالحقيقة أن الدولة الإسلامية قد وجدت في
الإعتزال خطرا على مصالحها في نهاية المطاف ، ففي البداية كان التصور لدى الدولة ( ونقصد هنا الفترة التي حكم
فيها الخلفاء الذين دعوا الفكر المعتزلي كالمأمون وغيره ) أن الاعتزال هو غالبا
الفكر الأصلح لتغطيت الأيدلوجيا الرسمية ، فبعد الانفتاح على الثقافات الأخرى (كثقافة
اليونانية و الفارسية و المصرية إلخ ) وما
ظهر من تحديات واجهتها ،
فقد بدى أن الاعتزال غالبا هو الفكر المنشود ليرد على تلك التحديات ؛ خاصة و قد أتبت نجاحه إلى حد كبير في الرد على
الخصوم الفكريين و الدينيين ، لكن طبعا الأمر الذي لم يكن متوقع من الاعتزال هو أن
ينتهي هو نفسه لان يكون عدوا للدولة و مهددا لها ، لهذا فالدولة الإسلامية وبعد
وصول الطريق الاعتزالي إلى تلك النتيجة فهي قد انقلبت عليه ، وضحت بالمعتزلة على حساب محاولة عقلنة الخطاب الرسمي ، فالدولة بالبداهة تبحث عن ديمومتها
، وهو الأمر
المتوقع عموما فلا يتخيل لا اليوم ولا غدا أن تنحاز الدولة لغير مصالحها .
________________________________________
1 ) إنّ الخلفاء العباسيين ـ من عصر
المأمون إلى المعتصم، إلى الواثق بالله ـ كانوا يروّجون لأهل التعقّل والتفكّر،
فكان للاعتزال في تلك العصور رقيّ وازدهار. فلمّا توفّي الواثق بالله عام
232هـ وأخذ المتوكل بزمام السلطة بيده، انقلب الأمر وصارت القوة لأصحاب
الحديث، ولم تزل السيرة على ذلك حتى هلك المتوكل وقام المنتصر بالله
مقامه، فالمستعين بالله، فالمعتز بالله، فالمهتدي، فالمعتمد، فالمعتضد،
فالمكتفي، فالمقتدر، وقد أخذ المقتدر زمام الحكم من عام 295هـ إلى 320هـ .. وقد
ضيق أصحاب السلطة ـ في عصر المتوكل إلى عهد المقتدر ـ الأمر على منهج
التعقّل، فالضغط والضيق كانا
يتزايدان ولا يتناقصان أبدا. ( الملل و
النحل، ج 2 ص 25 – 26 )
يتبع ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق