لكن عموما و رغم الفشل من الجهمية
في محاولة عقلنة الإسلام ، إلا أن مسعاهم هذا لم يذهب هباءا ، فتلك المحاولات منهم
وتلك الأطروحات التي طرحوها كانت تقريبا كالحجر الذي ألقي في مياه راكدة فحركها ،
فالثورة الفكرية التي قادوها قد أسست لاحقا لفرق عقلانية أخرى ستحاول شق الطريق ،
وبالتحديد أكثر الفرق الإسلامية العقلانية شهرة وهي فرقة المعتزلة 1 فالمعتزلة تقريبا من حيث المنهج والتفكير هم ورثة الأفكار الجهمية ، أو لنقل
بمعنى أدق "التطور الفكري الطبيعي لفرقة الجهمية " لان الجهمية و المعتزلة
كلاهما يشتركان في مسالة مركزية العقل ، لكن الفرق بينهما عموما أن المعتزلة قفزوا
قفزة لم يقفزها الجهمية في قضية نظرتهم للقران "و تحديدا حين اخضعوا النص
الديني لمشرط العقل " ففي عهد
الجهمية كان التصور أن القران هو الفيصل في أمور الدنيا و الدين ومنه واجهوا كثير
من الإشكاليات حين سعوا للعقلنة المتكاملة للقرآن بموائمته مع العقل ، في المقابل
فما ذهب إليه المعتزلة هو أن القرآن مجرد داعم للعقل لبلوغ الحقيقة ، وليس مؤسسا
للحقيقة ، حيث كانوا يعتبرون أن الأصل في التحسين و التقبيح هو العقل وليس النص
الديني ، و يقول القاضي عبد الجبار ابن أحمد في هذا الشأن وعلى سؤال : ما الأدلة
عند المعتزلي ؟ (أي الأدلة التي يستند إليها في معرفة الله ) أنها " حجة
العقل و السنة و الكاتب و الإجماع " ( الأصول
الخمسة ص 66) وهذا الرد هنا ورغم بساطته إلا
أنه يعتبر نقلة جذرية عن ما قام به الجهمية ، فالمعنى هنا بأن الله يعرف بحجة
العقل ، و أن القبيح ما قبحه العقل هو أن القران ليس هو المؤسس لمفهوم الحقيقة ،
فالقران لو أسس للحقيقة لكان الله يعرف بالقران ، ولكان القبيح ما قبحه الشرع
، و الحسن ما حسنه الشرع كما يقول النقلية "إنّ الحسن
والقبح شرعيان، ولا يقضي العقل بحسن شيء منها، ولا
بقبحه، بل القاضي بذلك هو الشرع، و ما حسّنه فهو حسن وما قبّحه فهو
قبيح" (نهج
الحقّ وكشف الصدق: ص 83. ) ؛ لكن جعل العقل هو
الحاكم سيضع القران تحت المجهر العقلي ، حيث أن القران لو خالف العقل فالله هو
المحاكم وليس العقل ، وعليه كان المعتزلة وكلما واجهوا مشكلة مع النص القرآني فهم
يسقطون النص ويعلون ما أملاه العقل ولهذا أنتقدهم الأصوليون .
لكن عموما يمكن القول أن المعتزلة ورغم هذه
الثورة الكبيرة على التصور التقليدي الذي عاصرهم ، إلا أنهم لم يذهبوا بهذا المسعى
لنقض مفهوم الله حال أن يتعارض العقل مع كلام الله فهم تقبلوا مفهوم الله كقضية جوهرية ، وكانت
وحدانية الله عندهم من أركان عقيدهم الخمسة (التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر) لكنهم بالأساس قلبوا طريقة الاستنتاج في مسألة النظر إلى الله ، فخلافا
للنقلية الذي قالوا "أن كل ما نقل عن الله حق ولو خالف النقل العقل " ، فهم
قالوا "أن الله حق ومادام حقا فهو لا يجب أن يخالف الحق الذي يقره العقل ، و
عليه فكل ما اقره العقل كحق فهو من الله " ومن هذا المنظور كان المعتزلة و حال
أن واجهوا في القران ما خالف الحق ، فهم لا يقولون أن الله قد خالف الحق ومنه
فالله باطل على غرار الملاحدة ، بل يقولون أن القران هو من خالف الحق لضرورة من
كونه مخلوقا ، فالقران خطأه نابع من كونه ليس كلام الله الأزلي الذي نطق به ، بل هو
قول مخلوق قد يطرأ عليه النقص ككل المخلوقات الإلهية ، و المقصود من خلق القران
هنا أي أنه "محدث" ( الأصول الخمسة ص 86 ) و " الحادث كائن بعد أن لم يكن, وبالتالي كان له مكان,
فإذا ذهب المكان والمكين وهما عرضان.. بقي القرآن تاريخا" (مصادر
التشريع الإسلامي (14) علي جمعة
الاهرام 22/01/2007) وكما نلاحظ هنا المعتزلة ذهبوا تقريبا إلى نفس
المذهب "التاريخاني "الذي ذهب له مفكرون مسلمون معاصرون على غرار أركون
ونصر حامد أبو زيد و غيرهم بعد اصطدام النص القراني لديهم مع العقلانية ، حيث و بدل
أن يقولوا مثلا أخطا الله في كذا أو كذا حين يتعارض العقل والنقل ، يقولون أن الخطأ
إنما هو نتاج لتاريخية النص ، فالله انزل النص يعاني العوار عمدا ليلاءم به حاجات
المؤمنين في ذلك الزمان ، وطبعا و مادام ذلك الزمان قد فات ، فلسنا ملزمين بما اقر
له لأنه مغلوط ، بل نحن ملزمون فقط بما عقلناه اليوم ، أما ما لم نعقله ، فالبديل
له هو الشريعة العقلية ، وهكذا حل
المعتزلة (كما بعض المفكرين المسلمون المعاصرين ) إشكالية التعارض بين النقل
والعقل بدون أن يذهبوا لنقض النص .
_______________________________________________________________________________
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق