ابن باديس بين الآمال و المُنال.
رغم الاتفاق الظاهري حول شخص
ابن باديس في الجزائر كعلامة له دور كبيرة في حماية الهوية الجزائرية و أصالتها ،
إلا انه في الواقع وعلى مستوى التوصيف الدقيق لمشروع الرجل فالأمر مختلف عليه أشد
الاختلاف ، فنحن نجد في الجزائر تيارات فكرية كثيرة تتصارع حول مشروع الرجل ،
والجميع يحاول نسبه ونسب أعماله له ( سلفيين ، إصلاحيين ، إسلاميين ..الخ ) ، فلما يا ترى انتهى الحال بابن باديس
إلى أن يدخل هذا المزاد العلني بين هذه التيارات ؟ ثم لماذا يصل الحال به لان يكون غامضا كل هذا
الغموض ، بحيث لا يزال إلى الآن الصراع حول "إلى أي مدرسة فكرية ينتمي"
قائما ؟ .
لو عدنا إلى التاريخ للإجابة على هذا
السؤال فيمكن القول أن ابن باديس هو من يتحمل وزر هذا الأمر في جانب
ما ، فابن باديس في مشروعه الفكري
كان في الواقع متذبذبا بين الإقدام على الإصلاح
، وبين الخوف من الصد المجتمعي ، وعليه فقد ظهرت أفكاره كنوع مشوش من
الرأي يمكن تأويله إلى أي جانب .
ويمكن عزو هذا الأمر إذا أردنا التحديد
لتأثر أبن باديس بالإمام محمد عبده 1 ،
فالإمام محمد عبده كان إصلاحيا إشكاليا ، فهو ذهب بمفهومه لإصلاح الموروث الديني
إلى مرحلة بعيدة ، حيث أنكر مثلا المعجزات ، و أيضا محاولته إسقاط ما سماه
"الخرافات في الإسلام " في نزعة إصلاحية عقلانية للدين 2، لكن في
المقابل فابن باديس وفي مشروعه لم يبدو أنه كان يمتلك الجرأة لفعل هذا الأمر في
الجزائر ، وعليه فقد ركز في إصلاحه للموروث الديني على مسألة الطرقية وخرافتها فقط
، وعليه فيمكن القول هنا أن إبن باديس
وبهذا التذبذب هو ما أدى للإشكالية في فهم دواعي هذا الهجوم منه على الطرقية ، فهو
و بدل أن يبدو أنه يهدف إلى نقل الجزائريين من الخرافة إلى العقلانية كما نهج قودته
محمد عبده ، قد بدى كأنما هو داعي لنشر المذهب الوهابي المناهض للطرقية . ومن هنا
يمكننا فهم المدخل الذي يعتمده السلفية اليوم
في نسب ابن باديس لهم ، فهم يرونه داعيا لنبذ الطرقية ، وعليه يعتبرونه
منهم ، في المقابل يرى الإصلاحيون الجزائريون أن ابن باديس منهم أيضا ، وهذا من منطلق أنه داعي لتنقية
الدين من الخرافة .
"إذن وكما نلاحظ فالتذبذب من ابن باديس في الكشف عن نواياه الإصلاحية ، هو ما أدى لهذا الالتباس وسوء
الفهم لمشروعه من قبل الآخرين ، بحيث انتهى الحال إلى ما هو عليه الآن" .
لكن
ومع هذا فيجب القول أن هذا التذبذب ليس هو السبب الوحيد للأمر ، فهنا يجب الإشارة إلى أن صديق دربه "
محمد البشير الإبراهيمي" مسؤول أيضا ، فالإبراهيمي الذي تقلد منصب رئيس جمعية
العلماء المسلمين بعد الإمام ، هو المعني الأول بتحوير مشروع إبن باديس من نقد
الطرقية لتثبيت العقلانية ، لنقد الطرقية للتثبيت الوهابية ، وهذا لكون الرجل كان مفكرا
أصوليا ، على عكس الإمام إبن باديس الذي كان مفكرا إصلاحيا ، وعليه فقد طفت تصوراته
الأصولية و المحافظة على الجمعية ، بدل تصورات ابن باديس الإصلاحية التقدمية .
وبخصوص هذا الأمر فيمكن عزو هذا لكون الإبراهيمي
قد ارتبط بعلاقات بالنخبة الدينية المحافظة في المشرق (الوهابية ) 3، عدى طبعا علاقاته برواد الأصولية الدينية الإخوانية هناك
كالغزالي و السيد قطب 4، وهؤلاء بلا شك هم من حرفوا مسار الجمعية من جمعية داعية للعقلانية
، إلى جمعية داعية للأصولية .
وهنا يمكننا الإضافة إلى أن نبد النظام
الحاكم لجمعية العلماء المسلمين عقب الاستقلال قد ساهم في مفاقمة الوضع ، ففي ظل
عدم وجود حماية ورعاية للمنهج العقلاني لابن باديس ، فقد سيطر المنهج الأصولي على
الجمعية ، وهو ما انتهى إلى أن تحولت
الجمعية لمعقل أصولي في الجزائر ، و للأسف فهذا التهاون لم يكن ليمر مرور الكرام
على البلاد ، فالواقع أن حادثة تسلل الأصولية للجزائر و وقوعها ضحية للإرهاب ،
كانت نتيجة مباشرة لهذا التهاون بمشروع الرجل ، فبعد إفراغ الوعاء الديني الجزائري
من الطرقية المسالمة وتسلميه للأصولية
الوهابية ، لم يكن من الغريب أن تنفجر الأوضاع في شكل إرهاب و تعصب في وجه الدولة
المجتمع ، فبالأساس البذرة المفرخة للإرهاب قد زرعت مع تحول الجمعية إلى حاضنة
لتفريخ الإرهاب و التطرف ، فهذه هي
النتيجة الحتمية لاستبدال الطرقية بالوهابية
5.
إذن ومن هنا وكما نلاحظ فالمشروع الباديسي
لا يزال يعاني من اللبس وعدم الاستيعاب ،
لأنه للأسف من البداية لم يفهم ، فما يحصل مع ابن باديس اليوم أن الجميع يسقط عليه
تصوراته الشخصية ، فالجزائريون يحتفلون به كرائد للعلم ، وقد كرموه بيوم العلم على ذكرى وفاته ، في
المقابل السلفيون يرونه رائدا لمحاربة الشرك ونشر السلفية ، أما الإسلاميون فيرونه داعيا للحافظ على
الهوية الإسلامية ، وبين كل هذه الرؤى المتناقضة يظل ابن باديس مغيبا .
_________________________________________
1
تلقى الإمام
عبد الحميد بن باديس العلم على يد الشيخ الطاهر بن عاشور في جامعة الزيتونة بتونس
، وتشبع بآراء الإمام محمد عبده الإصلاحية التي قامت على ضرورة جعل التعليم و
التربية وسيلة للخلاص من الاستعمار (جوانب
من الحياة العقلية و الأدبية في الجزائر ص
117 ) .
2
من الأمور التي تغفل دائما أن هناك فارقا في مفهوم الإصلاح بين بدايات القرن
العرشين و أوساطه ، فالنخبة الأولى من المصلحين الإسلاميين كانت من دعاة العقلانية
و الحادثة كالأفغاني ، ومحمد عبده ، ومحمد
إقبال ..الخ و إعتبرت أن إصلاح الإسلام هو بموائمته مع العصر ، في المقابل اعتبرت
النخبة الوسيطة وعلى العكس من هذا أن
إصلاح الإسلام لا يكون إلا بتنقيته من كل ما هو حديث (أو على حد تعبيهم بدعة ) وهو ما انتهى على الإسلام إلى معاداة
الحداثة والعصر .
3
معلوم من
تاريخ الإبراهيمي انه عاش في المدينة المنورة فترة ما مع والده ، وبالنظر إلى حال
جميع من سكنوا في السعودية ، فالواقع يقول أنهم يخرجون متأثرين بالفكر الوهابي ،
خاصة إذا كانوا من النخبة الدينية ، وعليه فنحن نتوقع حدوث هذا الأمر مع الإمام
الإبراهيمي .
4 صورة للبشير
الإبراهيمي مع نخبة من أقطاب الأصولية في المشرق ، وعلى رأسهم الإخواني سيد قطب ، والتي تدعم تصورنا للمنهج الأصولي السياسي للإبراهيمي ، خلافا للإمام عبد إبن باديس الإصلاحي التقدمي .
5
رغم كل ما
خاضته الدولة الجزائر في مكافحة الإرهاب فهي لم تنجح بمحاصرته إلا بعد العودة
لإنصاف الطرقية ودروها في المجتمع الجزائري ، فمن سياسات الرئيس بوتفليقة المركزية
في إعادة الأمن ، هو إعادة الإعتبار للزوايا كجدار صد ضد الفكر المتطرف ، فالطرقية
و التصوف عموما منهج مناقض للإرهاب ، لكون الإرهاب حالة سلفية فقط .
شكرا .
شكرا .
برافو...أبدعت.
ردحذف